فصل: قال الخطيب الشربيني:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقيل في التوراة.
{وَإذْ أَخَذْنَا منَ النبيين ميثَاقَهُمْ} مقدر باذكر وميثاقهم عهودهم بتبليغ الرسالة والدعاء إلى الدين القيم. {وَمنْكَ وَمن نُّوحٍ وإبراهيم وموسى وَعيسَى ابن مَرْيَمَ} خصهم بالذكر لأنهم مشاهير أرباب الشرائع وقدم نبينا عليه الصلاة والسلام تعظيمًا له وتكريمًا لشأنه. {وَأَخَذْنَا منْهُمْ ميثاقا غَليظًا} عظيم الشأن أو مؤكدًا باليمين، والتكرير لبيان هذا الوصف تعظيمًا له.
{لّيَسْأَلَ الصادقين عَن صدْقهمْ} أي فعلنا ذلك ليسأل الله يوم القيامة الأنبياء الذين صدقوا عهدهم عما قالوه لقومهم، أو تصديقهم إياهم تبكيتًا لهم أو المصدقين لهم عن تصديقهم فإن مصدق الصادق صادق، أو المؤمنين الذين صدقوا عهدهم حين أشهدهم على أنفسهم عن صدقهم عهدهم. {وَأَعَدَّ للكافرين عَذَابًا أَليمًا} عطف على {أَخَذْنَا} من جهة أن بعثة الرسل وأخذ الميثاق منهم لإثابة المؤمنين، أو على ما دل عليه ليسأل كأنه قال فأثاب المؤمنين وأعد للكافرين.
{يا أيها الذين ءَامَنُوا اذكروا نعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ} يعني الأحزاب وهم قريش وغطفان ويهود قريظة والنضير وكانوا زهاء اثني عشر ألفًا. {فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهمْ ريحًا} ريح الصبا. {وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا} الملائكة. روي أنه عليه الصلاة والسلام لما سمع بإقبالهم ضرب الخندق على المدينة ثم خرج إليهم في ثلاثة آلاف والخندق بينه وبينهم، ومضى على الفريقين قريب من شهر لا حرب بينهم إلا الترامي بالنبل والحجارة حتى بعث الله عليهم ريحًا باردة في ليلة شاتية، فأخصرتهم وسفت التراب في وجوههم وأطفأت نيرانهم وقلعت خيامهم وماجت الخيل بعضها في بعض وكبرت الملائكة في جوانب العسكر، فقال طليحة بن خويلد الأسدي أما محمد فقد بدأكم بالسحر فالنجاء النجاء فانهزموا من غير قتال. {وَكَانَ الله بمَا تَعْمَلُونَ} من حفر الخندق، وقرأ البصريان بالياء أي بما يعمل المشركون من التحزب والمحاربة. {بَصيرًا} رائيًا.
{إذْ جاءُوكم} بدل من إذا جاءتكم. {عَذَابًا مّن فَوْقكُمْ} من أعلى الوادي من قبل المشرق بنو غطفان. {وَمنْ أَسْفَلَ منكُمْ} من أسفل الوادي من قبل المغرب قريش. {وَإذْ زَاغَت الأبصار} مالت عن مستوى نظرها حيرة وشخوصًا. {وَبَلَغَت القلوب الحناجر} رعبًا فإن الرئة تنتفخ من شدة الروع فيرتفع القلب بارتفاعها إلى رأس الحنجرة، وهي منتهى الحلقوم مدخل الطعام والشراب. {وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا} الأنواع من الظن فظن المخلصون الثبت القلوب أن الله منجز وعده في إعلاء دينه، أو ممتحنهم فخافوا الزلل وضعف الاحتمال والضعاف القلوب والمنافقون ما حكي عنهم، والألف مزيدة في أمثاله تشبيهًا للفواصل بالقوافي وقد أجرى نافع وابن عامر وأبو بكر فيها الوصل مجرى الوقف، ولم يزدها أبو عمرو وحمزة ويعقوب مطلقًا وهو القياس.
{هُنَالكَ ابتلى المؤمنون} اختبروا فظهر المخلص من المنافق والثابت من المتزلزل. {وَزُلْزلُوا زلْزَالًا شَديدًا} من شدة الفزع وقُرئ {زلْزَالًا} بالفتح.
{وَإذْ يَقُولُ المنافقون والذين في قُلُوبهم مَّرَضٌ} ضعف اعتقاد. {مَّا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ} من الظفر وإعلاء الدين. {إلاَّ غُرُورًا} وعدا باطلًا. قيل قائله معتب بن قشير قال يعدنا محمد بفتح فارس والروم وأحدنا لا يقدر أن يتبرز فرقًا ما هذا إلا وعد غرور.
{وَإذْ قَالَت طَّائفَةٌ مّنْهُمْ} يعني أوس بن قيظي وأتباعه. {ياأهل يَثْربَ} أهل المدينة، وقيل هو اسم أرض وقعت المدينة في ناحية منها. {لاَ مُقَامَ} لا موضع قيام. {لَكُمْ} ها هنا، وقرأ حفص بالضم على أنه مكان أو مصدر من أقام. {فارجعوا} إلى منازلكم هاربين، وقيل المعنى لا مقام لكم على دين محمد فارجعوا إلى الشرك وأسلموه لتسلموا، أو لا مقام لكم بيثرب فارجعوا كفارًا ليمكنكم المقام بها. {وَيَسْتَأْذنُ فَريقٌ مّنْهُمُ النبى} للرجوع. {يَقُولُونَ إنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ} غير حصينة وأصلها الخلل، ويجوز أن يكون تخفيف العورة من عورت الدار إذا اختلت وقد قرىء بها. {وَمَا هي بعَوْرَةٍ} بل هي حصينة. {إن يُريدُونَ إلاَّ فرَارًا} أي وما يريدون بذلك إلا الفرار من القتال.
{وَلَوْ دُخلَتْ عَلَيْهمْ} دخلت المدينة أو بيوتهم. {مّنْ أَقْطَارهَا} من جوانبها وحذف الفاعل للإيماء بأن دخول هؤلاء المتحزبين عليهم ودخول غيرهم من العساكر سيان في اقتضاء الحكم المرتب عليه. {ثُمَّ سُئلُوا الفتنة} الردة ومقاتلة المسلمين. {لآتَوْهَا} لأعطوها، وقرأ الحجازيان بالقصر بمعنى لجاءوها وفعلوها. {وَمَا تَلَبَّثُوا بهَا} بالفتنة أو بإعطائها. {إلاَّ يَسيرًا} ريثما يكون السؤال والجواب، وقيل ما لبثوا بالمدينة بعد تمام الارتداد إلا يسيرًا.
{وَلَقَدْ كَانُوا عاهدوا الله من قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الأدبار} يعني بني حارثة عاهدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد حين فشلوا ثم تابوا أن لا يعودوا لمثله. {وَكَانَ عَهْدُ الله مَسْئُولًا} عن الوفاء به مجازى عليه.
{قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الفرار إن فَرَرْتُمْ مّنَ الموت أَو القتل} فإنه لابد لكل شخص من حتف أنف، أو قتل في وقت معين سبق به القضاء وجرى عليه القلم. {وَإذًا لاَّ تُمَتَّعُونَ إلاَّ قَليلًا} أي وإن نفعكم الفرار مثلا فمنعتم بالتأخير لم يكن ذلك التمتيع إلا تمتيعًا، أو زمانًا قليلًا.
{قُلْ مَن ذَا الذي يَعْصمُكُمْ مّنَ الله إنْ أَرَادَ بكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بكُمْ رَحْمَةً} أي أو يصيبكم بسوء إن أراد بكم رحمة فاختصر الكلام كما في قوله:
متقلدًا سيفًا ورمحًا

أو حمل الثاني على الأول لما في العصمة من معنى المنع. {وَلاَ يَجدُونَ لَهُمْ مّن دُون الله وَليًّا} ينفعهم. {وَلاَ نَصيرًا} يدفع الضر عنهم. اهـ.

.قال الخطيب الشربيني:

سورة الأحزاب مدنية وهي ثلاث وسبعون آية، وألف ومائتانوثمانون كلمة، وخمسة آلاف وتسعمائة وتسعون حرفًا.
وعن أبي ذر قال: قال أبيّ بن كعب: كم تعدون سورة الأحزاب قال: ثلاثًا وسبعين آية قال: والذي يحلف به أبيّ بن كعب أن كانت لتعدل سورة البقرة أو أطول، ولقد قرأنا منها آية الرجم الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة نكالًا من الله والله عزيز حكيم أراد أبيّ أن ذلك من جملة ما نسخ من القرآن وأما ما حكي أن تلك الزيادة كانت في صحيفة في بيت عائشة فأكلتها الداجن فمن تأليفات الملاحدة والروافض.
{بسم الله} الذي مهما أراد كان {الرحمن} الذي شملت رحمته كل موجود بالكرم والجود {الرحيم} لمن توكل عليه بالعطف عليه.
ونزل في أبي سفيان وعكرمة بن أبي جهل وأبي الأعور عمرو بن سفيان السلمي لما قدموا المدينة ونزلوا على عبد الله بن أبيّ رأس المنافقين بعد قتال أحد وقد أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم الأمان على أن يكلموه، فقام معهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح وطعمة بن أبيرق فقالوا للنبي صلى الله عليه وسلم وعنده عمر بن الخطاب: ارفض ذكر آلهتنا اللات والعزة ومناة وقل: إن لها شفاعة لمن عبدها وندعك وربك، فشق على النبي صلى الله عليه وسلم قولهم فقال عمر: يا رسول الله ائذن لي في قتلهم فقال إني قد أعطيتهم الأمان فقال عمر: أخرجوا في لعنة الله وغضبه، وأمر النبي صلى الله عليه وسلم عمر أن يخرجهم من المدينة.
{يا أيها النبي اتق الله} وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: إن أهل مكة منهم الوليد بن المغيرة وشيبة بن ربيعة دعوا صلى الله عليه وسلم إلى أن يرجع عن قوله على أن يعطوه شطر أموالهم، وخوّفه المنافقون من اليهود بالمدينة إن لم يرجع قتلوه فأنزل الله تعالى: {يا أيها النبي اتق الله} أي: دم على التقوى كما يقول الرجل لغيره وهو قائم: قم قائمًا أي: اثبت قائمًا فسقط بذلك ما يقال الأمر بالشيء لا يكون إلا عند اشتغال المأمور بغير المأمور به إذ لا يصح أن يقال للجالس: اجلس، وللساكت: اسكت، والنبي صلى الله عليه وسلم كان متقيًا لأن الأمر بالمداومة يصح في ذلك فيقال للجالس: اجلس هنا حتى آتيك، ويقال للساكت: قد أحسنت فاسكت تسلم أي: دم على ما أنت عليه.
وأيضًا من جهة العقل: أن الملك يتقي منه عادة على ثلاثة أوجه: بعضهم يخاف من عقابه، وبعضهم يخاف من قطع ثوابه، وثالث يخاف من احتجابه، فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يؤمر بالتقوى بالأول ولا بالثاني، وأما الثالث فالمخلص لا يأمنه ما دام في الدنيا، فكيف والأمور البدنية شاغلة، فالآدمي في الدنيا تارة مع الله والأخرى مقبل على ما لابد منه وإن كان معه الله، ولهذا أشار بقوله عليه الصلاة والسلام {إنما أن بشر مثلكم يوحى إلي} يعني برفع الحجاب عني وقت الوحي ثم أعود إليكم كأني منكم، فأمر بتقوى توجب إدامة الحضور، وقال الضحاك: معناه اتق الله ولا تنقض الذي بينك وبينهم، وقيل: الخطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم والمراد الأمة.
تنبيه:
جعل الله تعالى نداء نبيه صلى الله عليه وسلم بالنبي والرسول في قوله تعالى: {يا أيها النبي اتق الله} {يا أيها النبي لم تحرم} {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك} وترك نداءه باسمه كما قال تعالى: يا آدم يا موسى يا عيسى يا داود كرامة وتشريفًا وتنويهًا بفضله، فإن قيل: إن لم يوقع اسمه في النداء فقد أوقعه في الأخبار في قوله تعالى: {محمد رسول الله} {وما محمد إلا رسول}.
أجيب: بأن ذلك لتعليم الناس أنه رسول الله وتلقين لهم أن يسموه بذلك ويدعوه به فلا تفاوت بين النداء والإخبار، ألا ترى إلى ما لم يقصد به التعليم والتلقين من الإخبار كيف ذكره بنحو ما ذكر في النداء {لقد جاءكم رسول من أنفسكم} {وقال الرسول يا رب} (الفرقان: 30) {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} {والله ورسوله أحق أن يرضوه}.
{النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم} {ولو كانوا يؤمنون بالله والنبي} {إن الله وملائكته يصلون على النبي}.
وقرأ نافع النبئ بالهمزة والباقون بغير همز.
ولما وجه إليه صلى الله عليه وسلم الأمر بخشية الولي الودود أتبعه النهي عن الالتفات لنحو العدو الحسود بقوله تعالى: {ولا تطع الكافرين والمنافقين} في شيء من الأشياء لم يتقدم إليك من الخالق فيه أمر وإن لاحَ لائح خوفٍ أو برق رجاء فجانبهم واحترس منهم، فإنهم أعداء الله تعالى وأعداء المؤمنين، لا يريدون إلا المضارة والمضادة. قال أبو حيان: سبب نزولها أنه روى: أنه صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة كان يحب إسلام اليهود فتابعه ناس على النفاق وكل يلين لهم جانبه، وكانوا يظهرون النصائح من طريق المخادعة فنزلت تحذيرًا لهم منهم وتنبيهًا على عداوتهم انتهى وبهذا سقط ما قيل: لم خص الكافر والمنافق بالذكر ولأن ذكر غيرهما لا حاجة إليه لأنه لا يكون عنده إلا مطاعًا ولأن كل من طلب من النبي صلى الله عليه وسلم طاعته فهو كافر أو منافق؛ لأن من يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بأمر إيجاب معتقدًا أنه لم يفعله يعاقبه بحق يكون كافرًا، وقرأ أبو عمرو والدوري عن الكسائي، الكافرين بالإمالة محضة، وورش بين بين والباقون بالفتح.
ثم علل تعالى الأمر والنهي بما يزيل الهموم ويوجب الإقبال عليهما واللزوم بقوله تعالى: {إن الله} أي: بعظيم كماله {كان} أزلًا وأبدًا {عليمًا} أي: شامل العلم {حكيمًا} أي: بالغ الحكمة فهو تعالى لم يأمرك بأمر إلا وقد علم ما يترتب عليه، وأحكم إصلاح الحال فيه.
ولما كان ذلك مفهمًا لمخالفة كل ما يدعو إليه كافر، وكان الكافر ربما دعا إلى شيء من مكارم الأخلاق قيده بقوله تعالى: {واتبع} أي: بغاية جهدك {ما يوحى} أي: يلقى إلقاء خفيًا كما يفعل المحب مع حبيبه {إليك من ربك} أي: المحسن إليك بصلاح جميع أمرك، وأتى موضع الضمير بالظاهر ليدل على الإحسان في التربية ليقوى على امتثال ما أمرت به الآية السالفة.
ولما أمر باتباع الوحي رغبه فيه بالتعليل بأوضح من التعليل الأول في أن مكرهم خفي بقوله تعالى مذكرًا بالاسم الأعظم بجميع ما يدل عليه من الأسماء الحسنى زيادة في التقوى على الامتثال مؤكدًا للترغيب {أن الله} أي: بعظمته وكماله {كان} أزلًا وأبدًا {بما يعملون} أي: الفريقان من المكايد وإن دق {خبيرًا} أي: فلا تهتم بشأنهم، فإنه سبحانه كافيكه وإن تعاظم، وقرأ أبو عمرو {بما يعملون خبيرًا} {وبما يعملون بصيرًا} بالياء على الغيبة على أن الواو ضمير الكفرة والمنافقين والباقون بالتاء على الخطاب فيهما.
ولما كان الآدمي موضع الحاجة قال تعالى: {وتوكل} أي: دع الاعتماد على التدبير في أمورك واعتمد فيها {على الله} أي: المحيط علمًا وقدرة فإنه يكفيك في جميع أمورك {وكفى بالله} أي: الذي له الأمر كله على الإطلاق {وكيلا} أي: موكولًا إليه الأمور كلها فلا تلتفت في شيء من أمرك إلى غيره؛ لأنه ليس لك قلبان تصرف كل واحد منهما إلى واحد كما قال تعالى: {ما جعل الله} أي: الذي له الحكمة البالغة والعظمة الباهرة {لرجل} أي: لأحد من بني آدم ولا غيره، وعبر بالرجل لأنه أقوى جسمًا وفهمًا فيفهم غيره من باب أولى، وأشار إلى التأكيد بقوله تعالى: {من قلبين} وأكد الحقيقة وقررها وجلاها وصورها بقوله تعالى: {في جوفه} أي: ما جمع الله تعالى قلبين في جوف؛ لأن القلب معدن الروح الحيواني المتعلق للنفس الإنساني أولًا، ومنبع القوى بأسرها ومدبر البدن بإذن الله تعالى وذلك يمنع التعدد {وما جعل أزواجكم اللائي} أباح لكم التمتع بهن {تظاهرون منهن} كما يقول الإنسان للواحدة منهن: أنت عليّ كظهر أمي {أمهاتكم} بما حرم عليكم من الاستمتاع بهن حتى تجعلوا ذلك على التأبيد وترتبوا على ذلك أحكام الأمهات كلها {وما جعل أدعياءكم} جمع دعيّ وهو من يدعي لغير أبيه {أبناءكم} حقيقة ليجعل لهم إرثكم ويحرم عليكم حلائلهم وغير ذلك من أحكام الأبناء.
والمعنى: أن الله سبحانه وتعالى كما لم ير في حكمته أن يجعل للإنسان قلبين لأنه لا يخلو أن يفعل بأحدهما مثل ما يفعل بالآخر من أفعال القلوب، فأحدهما فضلة غير محتاج إليها، وإما أن يفعل بهذا غير ما يفعل بذاك فذلك يؤدي إلى اتصاف الجملة بكونه مريدًا كارهًا عالمًا ظانًا موقنًا شاكًا في حالة واحدة لم ير أيضًا أن تكون المرأة الواحدة أما لرجل زوجًا له، لأن الأم مخدومة مخفوض لها الجناح، والمرأة مستخدمة متصرف فيها بالاستفراش وغيره كالمملوكة، وهما حالتان متنافيتان ولم ير أيضًا أن يكون الرجل الواحد دعيا لرجل وابنًا له؛ لأن البنوة أصالة في النسب وعراقة فيه، والدعوة إلصاق عارض بالتسمية لا غير، ولا يجتمع في الشيء الواحد أن يكون أصيلًا غير أصيل.
وهذا مثل ضربه الله تعالى في زيد بن حارثة وهو رجل من كلب سبي صغيرًا وكانت العرب في جاهليتها يتغاورون ويتسابون، فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة، فلما تزوجها النبي صلى الله عليه وسلم وهبته له وطلبه أبوه وعمه فخير فاختار النبي صلى الله عليه وسلم فقال له أبوه وعمه:
يا زيد أتختار العبودية على الربوبية قال: ما أنا بمفارق هذا الرجل فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم حرصه عليه أعتقه وتبناه قبل الوحي، وآخى بينه وبين حمزة بن عبد المطلب، فلما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش وكانت تحت زيد بن حارثة قال المنافقون: تزوج امرأة ابنه وهو ينهى الناس عن ذلك، فأنزل الله تعالى هذه الآية فيه، وكذا قوله تعالى: {ما كان محمد أبا أحد من رجالكم}.
وروي أن رجلًا كان يسمى أبا معمر جميل بن معمر الفهري وكان رجلًا لبيبًا حافظًا لما يسمع، فقالت قريش: ما حفظ أبو معمر هذه الأشياء إلا وله قلبان، وكان يقول: لي قلبان أعقل بكل واحد منهما أفضل من عقل محمد، فلما هزم الله تعالى المشركين يوم بدر انهزم أبو معمر فيهم فلقيه أبو سفيان وهو معلق إحدى نعليه بيده والأخرى في رجله فقال له: ما فعل الناس فقال له: بين مقتول وهارب فقال له: فما بالك إحدى نعليك في رجلك والأخرى في يدك؟ فقال: ما ظننت إلا أنهما في رجلي فأكذب الله تعالى قوله، وقولهم وضربه مثلًا في الظهار والتبني.